فصل: باب: مِنْ أَينَ تُؤْتَى الجُمُعَةُ، وَعَلَى مَنْ تَجِب

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فيض الباري شرح صحيح البخاري ***


باب‏:‏ يُسَلِّم حِينَ يُسَلِّمُ الإِمَام

يُشِيرُ إلى المقارنة، كما هو مذهب الحنفية دون التعقيب‏.‏

باب‏:‏ مَنْ لَمْ يَرَ رَدَّ السَّلامِ عَلَى الإِمَامِ، وَاكْتَفَى بِتَسْلِيمِ الصَّلاة

فيه تعريضٌ إلى مالك رحمه الله تعالى، فإنه يقول بردِّ السلام على الإِمام أيضًا، كما عَلِمْتَ آنفًا‏.‏ وعند الجمهور‏:‏ سلامُ الإمام في النية فقط، فإن كان في جهته يَنْوِيه فيها، وإِلا ففيهما‏.‏ وراجع الفقه‏.‏

باب‏:‏ الذِّكْرِ بَعْدَ الصَّلاة

بوَّبَ الآن على الأذكار بعد الصلاة، كما كان بوَّب أولا على الأدعية في خلال الصلاة‏.‏ واعلم أن الأدعيةَ على نحوين‏:‏ نحو ثَبَتَ دُبُر الصلوات قُبَيْل السُّنة، ونحو آخر ثَبَتَ في الأوقات المُنْتَشِرَة‏.‏ والمصنِّفُ رحمه الله تعالى بصدد بيان النحو الأول‏.‏ وصورةُ العمل بها‏:‏ أن يأتي بها بدلا، ومن أراد الجمعَ، فقد خَالَف السُّنة‏.‏ ومع هذا، لو فعله أحدٌ لا يَمْنَعُ لِمَا مرَّ أن العبادات ممَّا يتعسَّرُ عنها، فكيف بالذكر فإنه أفضلها‏.‏ ولذا لا يتقيَّدُ بوقتٍ دون وقتٍ، بخلاف سائر العبادات، فإن لها وقتًا‏.‏

فيقول تارةً‏:‏ «اللهم أنت السلام‏.‏‏.‏‏.‏» إلخ، كما عند الترمذيِّ‏.‏ وتارةً‏:‏ «اللهم أعنِّي على ذكرك‏.‏‏.‏‏.‏» إلخ، كما عند أبي داود‏.‏ وأخرى كلمة التوحيد، كما عند البخاري‏.‏ وهذا هو مَرَضِيُّ الشارع‏:‏ أن يُؤْتَى بها حينًا كذا، وحينًا كذا لا أن يَجْمَعَ بينها‏.‏ ولذا أقول‏:‏ إن السُّنة في جواب الحَيْعَلَة‏:‏ أمَّا الحَيْعَلة، أو الحَوْقَلة، دون الجمع‏.‏ وقد مرَّ مِنَّا التنبيه عليه في باب الأذان‏.‏ نعم الأدعية التي وردت في الأوقات المنتشرة، الأمر فيها إليكَ، أتيتَ بها كيف شِئْتَ‏.‏ ثم إن هذا الموضوع قد صار مُفْرَزًا بالتصنيف، فصنَّف النوويُّ رحمه الله تعالى كتاب «الأذكار»، وابن السُّنِّي «عمل اليوم والليلة»، «والأمالي للحافظ بن حَجَر رحمه الله تعالى‏.‏ فإنه عَقَد أربعةً وثمانين مَجْلِسًا لإملائه بمصر، ثم انْدَرَسَتْ تلك المجالس بعده حتى جاء السيوطي رحمه الله تعالى، وشرع الإملاء، ثم انْقَطَعَتْ بعده بالكليِّة‏.‏

وكذا صنَّف الجَزَرِي فيها «الحصن الحصين»‏.‏

رفع الصوت بالذكر

841- قوله‏:‏ «إن ابن عبَّاسٍ أَخْبَرَه‏:‏ أنَّ رفع الصوت بالذِّكْرِ حين يَنْصَرِفُ الناسُ من المكتوبة، كان على عهد النبيِّ صلى الله عليه وسلّم وقال ابن عبَّاس رضي الله عنه‏:‏ كُنْتُ أَعْلَمُ إِذا انْصَرَفُوا بذلك إذا سَمِعْتُهُ»‏.‏ ا ه‏.‏ وفي الحديث الثاني، عن ابن عباس رضي الله عنه‏:‏ ‏(‏كُنْتُ أَعْرِفُ انْقِضَاءَ صلاة النبيِّ صلى الله عليه وسلّم بالتنكير‏)‏‏.‏ تَمسَّك بظاهره ابن حَزْم، وذَهَبَ إلى سُنِّيَة الجهر بالتكبير دُبُر الصلوات، وأنكرها الجمهور‏.‏ واخْتُلِفَ في توجيهه‏:‏ فقيل‏:‏ إن المراد بالتكبير تكبيرات الانتقالات في خلال الصلوات، أي كنتُ أَعْرِفُ انقضاءَ الصلاة بانقطاع تلك التكبيرات‏.‏ وقيل‏:‏ المراد به تسبيح فاطمة رضي الله عنها، أي إذا كان الناس يُسَبِّحُون بها، كنتُ أعرفُ أنها قد انْقَضَتْ‏.‏ وقيل‏:‏ المراد به‏:‏ القول بالله أكبر، وكان الأمراءُ يفعلونه في الجيوش أَوَانَ الحرب‏.‏

والذي تبيَّن لي في بيان مراده‏:‏ أن هذا الحديث والحديث الأول متحدٌ سندًا ومتنًا، فالمراد من التكبير‏:‏ هو الذكر مطلقًا، كما في الحديث الأول، لا خصوصَ التكبير، كما سيقت إليه الأذهان‏.‏ وهذا موضعٌ مُشْكِلٌ، فإنك إن رَاعَيْتَ لفظ التكبير، دَلَّ على سُنيته لا مَحَالة‏.‏ وإن رَاعيت لفظ الذكر، فهو يُنَاقِضُهَا‏.‏ ويُشْكِلُ في مثل هذه المواضع تعيين اللفظ على مثل البخاريِّ أيضًا، وهذا الذي عَرَاه في حديث‏:‏ «إذا أمَّنَ الإِمَامُ‏.‏‏.‏‏.‏» إلخ‏.‏ ففي لفظٍ‏:‏ «إذا أمَّنَ القارىءُ»، وفي لفظ‏:‏ «إذا قال الإمامُ‏:‏ غير المغضوب عليهم‏.‏‏.‏‏.‏» إلخ‏.‏ ولمَّا لم يَنْفَصِلْ عنده شيءٌ، بَوَّبَ على كلَ ما ناسب له‏.‏ فينبغي الغَوْر عند تغايرُ اللَّفْظَيْنِ من حديثٍ‏:‏ إنهما متبادلان، أو متصادقان، أو مجامعان لتبيين صورة العمل‏.‏ وقد ظَهَرَ لي‏:‏ أن اللفظَ في الحديث‏:‏ هو الذكر، وقَصْرُه على التكبير مسامحةٌ للراوي‏.‏

ثم إن الشافعيَّ رحمه الله تعالى حَمَلَ الجهرَ بالتكبير على التعليم، وبمثله قال صاحب «الهداية» في التسمية، والبِرْكِلي، والجُرْجَاني في التأمين‏.‏ فالأصلُ في جملة الأذكار هو الإخفاء‏.‏ نعم وَرَدَ الجهر بها أحيانًا، لفائدة وداعية، ولا تَثْبُتُ به السُّنية، وإنما تَثْبُتُ أن أكثر عمله صلى الله عليه وسلّم كان بالجهر‏.‏ وقد ثَبَتَ عندي جَهْرُ الأذكار والأدعية كلِّها تقريبًا غير التشُّهد والتسبيحات، حتى جهر الآية في السِّرِّية أيضًا، فدَلَّ على أن معاملة الجهر والإخفاء هيِّنٌ عند الشرع، لا أن الجَاهِرَ بالتأمين مُتَّبِعٌ للسُّنة، والمُسِرَّ بهِ مُخَالِفٌ لها، وإنما بَالَغ فيه المبالعون فقط‏.‏

ثم إن تسبيحَ فاطمة رضي الله تعالى عنها علَّمها إياه النبيُّ صلى الله عليه وسلّم عند النوم، لا دُبُرَ الصلوات‏.‏ وإنما سُمِّيَت بتسبيح فاطمة رضي الله تعالى عنها، لكونها على الصِّفة التي علَّمها النبيُّ صلى الله عليه وسلّم عَقِيب الصلوات أيضًا‏.‏ وقد وَرَدَتْ فيها ثلاث صفاتٍ‏:‏ تقسيم المئة على التسبيح، والتحميد، والتكبير ثلاثًا، مع زيادة التكبير لواحدة تكملةً للمئة‏.‏ وكذلك مع زيادة كلمة التوحيد تكلمة للمئة‏.‏ والثالث‏:‏ ما رآه رجلٌ في النون من تقسيمها أرباعًا، والرابع‏:‏ لا إله إلا الله‏.‏

وما عند مسلم من الصفة الرابعة، فهي وَهْمٌ نشأ من تقسيم ثلاث وثلاثين على الثلاث، ولَيْسَتْ صفةً مستقلةً‏.‏ فتلك مئة على جميع الصفات، وكلُّها عندي على سبيل التبادل، فحينًا كذا، وحينًا كذا‏.‏ والأحسنُ فيها ما عليه اليوم عمل الأمة، وهو ترتيبٌ حسنٌ عندي‏.‏ ولو خَالَفَ الترتيبَ، لا بأس لِمَا في الحديث‏:‏ «بأيهن بدأت أجزأ عنك»‏.‏ ولو جمع بينها لا يكون آثمًا، كما لا يكون سنةً، فإنها خيرٌ محضٌ‏.‏ والأذكار إذا أتى بها في غير محلِّها في الصلوات، لم يَمْنَعْ عنها الشارع، بل ربما أَثْنَى على صاحبها، فكيف بما كانت خارج الصلاة‏.‏

وإليه تَرْجِعُ مسألةَ الفاتحة عندي، فإن أحدًا إذا قرأها بدون عهدٍ منه، ولا سابقيَّة أمرٍ وعنايةٍ، لم يَمْنَعْ عنها صراحةً لكونها من القرآن، وأباحها إباحةً مرجوحةً، وتحمَّلها لكونها قرآنًا وخيرًا محضًا‏.‏

843- قوله‏:‏ ‏(‏ذَهَبَ أهلُ الدُّثُور‏)‏‏:‏ أي المال الكثير، وأصله في المال الذي يكون بعضه فوق بعض‏.‏ ‏(‏يعني وه مال ته به ته هو‏)‏‏.‏

843- قوله‏:‏ ‏(‏أَدْرَكْتُمْ مَنْ سَبَقَكُم‏)‏‏.‏ وقد مرَّ الكلامُ في لفظ الإدراك، ماذا حقيقته‏؟‏ وأن حديث‏:‏ «من أَدْرَكَ‏.‏‏.‏‏.‏» إلخ وَرَدَ في المسبوق، ولم يَرِدْ في مسألة المواقيت‏.‏ وأن الإدراك فيه كالإدراك ههنا‏.‏ سَبَقَهُم ناسٌ، فأدركوهم بعدهم‏.‏ وليس هذا في الأوقات أصلا، بحيث جلس يَرْقُبُ الشمسَ حتى إذا لم يَبْقَ إِلا قدر ركعةٍ، قام ودَخَلَ في الصلاة، وعُدَّ بذلك مُدْرِكًا لها‏.‏ كيف، وبناءُ الكلام على مثل هذا الرجل بعيدٌ من الشارع، فمن أخلَّ فيه، المتعمِّدُ فقد خَالَفَ الحديثَ‏.‏ والشافعيةُ أدخلوا تحته النائم، والناسي‏.‏ والتحقيقُ فيه مرَّ سابقًا‏.‏

844- قوله‏:‏ ‏(‏وعن الحَكَم، عن القاسم بن مُخَيْمِرَة‏)‏‏.‏ القاسم هذا من تلامذة عَلْقَمَة من أهل الكوفة‏.‏

باب‏:‏ يَسْتَقْبِلُ الإِمَامُ النَّاسَ إِذَا سَلَّم

اعلم أن الإمامَ إن أراد الانصرافَ إلى بيته، سلَّم وانْصَرَفَ‏.‏ وإن أراد القعودَ، فالسُّنة له أن يَسْتَقْبِلَ القومَ، وبه جَزَمَ المصنِّفُ رحمه الله تعالى، وصرَّح به الجُوْزَجَاني في «مبسوطه»‏.‏ وأمَّا التيامُنُ أو التياسُرُ المعمولُ بهما في زماننا، فليسا من السُّنة في شيءٍ، وإنما هما عند إرادة الانصراف إلى البيت، لا عند الجلوس بعد الصلاة‏.‏ فعن عليّ عند الترمذي أنه قال‏:‏ «إن كانت حاجتُه عن يمينه أخذ عن يمينه، وإن كانت حاجتُه عن يَسَارِهِ أخذ عن يساره»، فهما عند الانصراف لحاجته‏.‏ وما عن البَرَاء بن عَازِب عند أبي داود‏:‏ «من حبِّهم بكونهم في مَيْمَنَة النبيِّ صلى الله عليه وسلّم فهو لأن يقع بصرُه عليهم عند التسليم أولا، لا عند الجلوس بعد الصلاة دائمًا»‏.‏ وغَلِطَ فيه الناسُ من عبارات بعض المتأخِّرين، مع أنهم أرادوا بيان الجواز الفِقْهِي، فحملوه على بيان السنة‏.‏ فإن كنتَ تريد السُّنة، فالسَّنةُ في الاستقبال‏.‏ وإن كنتَ تريد الجواز، فافعل ما شِئْتَ‏.‏

846- قوله‏:‏ ‏(‏صَلاةَ الصُّبْحِ‏)‏، هي واقعةُ صُلْح الحُدَيْبِيَة في السنة السادسة، حين رَجَعَ بعد ذبح دم الإحصار‏.‏

846- قوله‏:‏ ‏(‏نَوْء‏)‏ وقد ذُكِرَ في «غياث اللغات» تحت لفظ التاريخ، فراجع تحقيقها منه‏.‏ ثم اعلم أنه قد مرَّ مني في أوائل الكتاب‏:‏ أنه لا تأثير للنجوم في الكون أصلا إلا في الحرارة والبرودة، فهي من الآثار الطبيعية‏.‏ أمَّا السعادةُ والنُّجُوسةُ، فلا تأثير لها فيها، ولا يقتضيها العقلُ، ولا تَشْهَدُ بها التجربة‏.‏ ثم لو سلَّمنا أن للنجوم تأثيرًا في المطر، فهو كحال المواسم‏.‏ ومما ينبغي أن يُعْلَمَ أنه ذهب الشيخ الأشعريُّ أن لا خَوَاصَ في الأشياء، فمن قال‏:‏ إن النارَ مُحْرِقةٌ، بمعنى كون الإحراق فيها، فهو كافرٌ‏.‏ كذا نقله الأَلُوسي في «روح المعاني»‏.‏ ونسب إلى المَاتُرِيدِيَّة‏:‏ أن في الأشياء خواص، إلا أنها بإذن الله تعالى‏.‏

قلتُ‏:‏ ولا يَكْفُرُ بمجرد هذا القول، ولكن يُنْظَرُ إلى حال نيته، فإن عدَّها من الأسباب العادية، فلا كفر، وإن ادَّعى لها الإِحراق لذاتها، كفر‏.‏ والمؤاخذةُ اللفظيةُ لم تَرِد في الشريعة في باب الكفر‏.‏ فإن الألفاظَ المُوهِمَة قد وردت في القرآن والحديث أيضًا، فالفصلُ بالنية لا غير‏.‏ وأصلُ هذا الاختلاف في سلسلة العِلَّل‏.‏ فقيل‏:‏ إن المُؤَثِّرة منها هي القريبةُ والبواقي شرائط‏.‏ وقيل‏:‏ المُؤَثِّرة هي الأولى‏.‏ وقيل‏:‏ المُؤَثِّرُ المجموع‏.‏ وقال بحر العلوم في «شرح المَثْنَوي»‏.‏ إن المُؤَثِّرة عند أهل السُّنة والجماعة هي الأولى فقط، وعند المُعْتَزِلة هي القريبة، والفلاسفةُ على قولين‏:‏ قيل‏:‏ المجموع، وقيل‏:‏ الأولى‏.‏

أقول بل المُؤَثِّر عندهم هو مجموع السلسلة، فإذا تحقَّقت تلك السلسلة بأسرها، أَوْجَبَتْ تحقُّق المعلول، وهو الإيجاب‏.‏ وليست الأولى فقط مُؤَثِّرة عندهم‏.‏ فإذا كانت المُؤَثِّرة عند أهل السُّنة والجماعة هي الأولى فقط، فالمُؤَثِّرُ في الأكوان كلِّها هو الله سبحانه، والبواقي شرائط، كما قال به المَاتُرِيدِيَّة‏.‏ ونِعْمَ ما قالوا، فإن كان الشيخُ الأشعريُّ قال بما نقله الأَلُوسي رحمه الله تعالى، فظاهرُه فاسدٌ‏.‏

ثم إنهم تكلَّموا في مسألة توحيد الأفعال، فقيل‏:‏ إن اللَّهَ سبحانه خالقٌ، والعبدَ كاسبٌ‏.‏ وقال الدَّوَّاني في شرح «العقائد الجلالي»‏:‏ إنه من مجموع القدرتين، وهو باطلٌ عندي‏.‏ فإنه لا تقوُّم لقدرة العبد بدون قدرة الحقِّ جَلَّ مجده، فمن أين يَحْصُلُ المجموع‏.‏ فإنه يستدعي جزءين مستقلَّين برأسهما ليَحْصُلَ بهما الثالث، وههنا لا حقيقةَ لقدرة العبد، ولا تقوُّم لها إلا بقدرة الله تعالى‏.‏

قلتُ‏:‏ ولا نظيرَ في الكون لنسبة فعل العبد إليه تعالى، فإن هذا الربط قد أحاط بالمخلوقات بأسرها، فمن أين يجيء النظير‏.‏ وقيل‏:‏ إن أصلَ الفعل من الخالق، ووصفَه من العبد‏.‏ وبالجملة أُبْهِمَت عليهم تلك المسألة، وقد تعرَّضْتُ إليه في الرسالة، أي «ضرب الخاتم ومرقاة الطارم» شيئًا‏.‏

باب‏:‏ مُكْثِ الإِمَامِ فِي مُصَلاهُ بَعْدَ السَّلام

واعلم أن السُّنة الأكثرية بعد الصلوات‏:‏ الانصراف إلى البيوت بدون مَكْثٍ إلا بقدر خروج النساء‏.‏ وكان في الأذكار والأدعية كلٌّ أميرَ نفسه، ولم تَثْبُت شاكلة الجماعة فيها، كما هو المعروف الآن، إلا في نزرٍ من المواضع، وقد مرَّ الكلامُ فيها‏.‏ وكنا نظنُّ أن المصنِّفَ رحمه الله تعالى يُرِيدُ بيان جواز هذه الشاكلة، إلا أنه نَقَلَ أثر ابن عمر، فتبيَّن منه أنه دخل في مسألةٍ أخرى، وهي‏:‏ جواز النافلة في مكان الفريضة‏.‏ واستحبَّ الحنفيةُ أن يتحوَّلَ عن ذلك المكان، فيتقدَّمُ أو يتأخَّرُ، ولهم في ذلك مادةٌ كبيرةٌ‏.‏ فعند مسلم، عن معاوية، وفيه‏:‏ «فإِن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أمرنا أن لا نوصل صلاةً بصلاةٍ حتى نتكلَّمَ أو نَخْرُجَ»‏.‏ وعن أنس رضي الله عنه عنده في خطبة النبيِّ صلى الله عليه وسلّم «أيُّها الناس إني إمامكم، فلا تَسْبِقُوني بالركوع، ولا بالسجود، ولا بالقيامِ، ولا بالانصراف»‏.‏ ا ه‏.‏

والمراد من الانصراف عندي‏:‏ هو انصرافُه عن القِبْلَة بعد السلام، ولا شكَّ أن انصرافَ المأمومين بعد انصراف إمامهم لا يَخْلُو عن استحبابٍ، وإن كان جائزًا قبله أيضًا‏.‏ ويمكن أن يُرَادَ من للانصراف‏:‏ التسليم، أي انصرافه عن الصلاة‏.‏ فالسُّنة هو أن يَفْصِلَ بين الفريضة والنافلة إمَّا بالمكان، أو بالكلام، كمامرَّ منا تحقيقه‏.‏ وبه صرَّح صاحب الهداية، إلا أن الناس يَمْكُثُون في زماننا بعد الفرائض، ويُصَلُّون السُّنن في ذلك المكان بعينه‏.‏ وينبغي أن لا يُحَرَّض الآن على أداء السُّنن في البيوت، لظهور التَّوَاني في أمور الدين، فإِنهم إِن يَرْجِعُوا إلى بيوتهم بدون أداء السُّنن في المساجد، ربَّما يَتَكَاسَلُون في أدائها، فيتركونها رأسًا‏.‏ وراجع ما عند أبي داود، عن ابن عمر رضي الله عنه‏.‏

848- قوله‏:‏ ‏(‏وقال لنا آدمُ‏)‏ ولعلَّه تأوَّل فيه، لأنه أخذه مذاكرةً‏.‏

848- قوله‏:‏ ‏(‏ويُذْكَرُ عن أبي هُرَيْرَةَ رَفَعَه‏:‏ لا يتطوَّع الإمامُ في مكانه»، ولم يَصِحَّ‏)‏‏.‏ وهو عند أبي داود، ولا بأسَ إذ صحَّ عند مسلم من طريقٍ آخر‏.‏ فعدنا يُصَلِّي التطوُّعَ في غير مكان الفريضة، وذلك آَكَدٌ في حقِّ الإِمام‏.‏

849- قوله‏:‏ «هِنْد الفِرَاسِيَّة» وقد أَطَالَ الحافظُ رحمه الله تعالى الكلامَ في اختلاف الفِرَاسِيَّة والقُرَشِيَّة‏.‏ قلتُ‏:‏ ويمكن أن تكونَ فِرَاسِيَّة صُلْبِيَّة، وقُرَشِيَّة موالاة أو بالعكس‏.‏

باب‏:‏ مَنْ صَلَّى بِالنَّاسِ، فَذَكَرَ حَاجَةً فَتَخَطَّاهُم

فَثَبَتَ التَّخَطِّي، مع أنه قد نهى عن التَّخَطِّي في الخارج، فهذا جائزٌ إذا لم يَتَأَذَّ به الناسُ، لكونه ممن يَتَبَرَّكُ به الناسُ من النبيِّ صلى الله عليه وسلّم

851- قوله‏:‏ ‏(‏فَكَرِهْتُ أن يَحْبِسَنِي‏)‏، أي يْشْغِلُني التفكُّرْ فيه عن الإقبال على الله ‏(‏يعني خيال بي أوردل لكارهي‏)‏‏.‏

باب‏:‏ الانْفِتَالِ وَالانْصِرَافِ عَنِ اليَمِينِ وَالشِّمَال

وظاهرٌ من هذه الترجمة أن المرادَ من الانصراف في الأحاديث‏:‏ هو الانصرافُ إلى البيت، سواء كان من جانب اليمين، أو اليَسَار، دون الجلوس بعد الفراغ متوجِّهًا إلى جهة اليمين أو اليَسَار، كما وُهِمَ‏.‏ وقد مرَّ التصريحُ به عن عليِّ رضي الله عنه عند الترمذيِّ‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ويَعِيبُ على مَنْ يَتَوخَّى، أو من يعْمِدُ الانتفالَ عن يمينه‏)‏ حاصلُه أنه مختارٌ في الانصراف من أيِّ الجانبين شاء انصرف، وقد أجاز الشرعُ بتأديب الزوج زوجته، والأب ابنه‏.‏ وكذا كلُّ من كان له حقٌّ على تأديب أحدٍ أن يُؤَدِّبه على ترك المستحبِّ أيضًا، ولا ينبغي التأديبُ عليه لغيرهم، وإنما كان النبيُّ صلى الله عليه وسلّم أكثر ما يَنْصَرِفُ إلى اليَسَارِ، لكون الحُجُرَات في تلك الجهة‏.‏

تنبيه

واعلم أن القيامَ عند ذكر ميلاد النبيِّ صلى الله عليه وسلّم بِدْعةٌ لا أصلَ له في الشرع وأحدثه ملك الإرْبِل كما في «تاريخ ابن خَلِّكَان»‏:‏ أنه كان يَعْقِدُ له مجالس، ويَصْرِفُ عليها أموالا‏.‏ وقد ألَّف ابن دِحْية المغربي كتابًا في الميلاد‏.‏ وأجازه السيوطي وابن حَجَر رحمهم الله تعالى قياسًا على قوله‏:‏ «قوموا لسيِّدِكم لسعد بن مُعَاذ رضي الله عنه» حين دعاه أن يقضي في بني قُرَيْظَة‏.‏

قلتُ‏:‏ وهو قياسٌ مع الفارق، فإنه قياسُ أحكام عَالَم الأرواح على عَالَم الأجسام، وقياسُ الموهوم على المُحَقِّق مع مُغَايَرَةِ الأحكام بين العَالَمَيْنِ، فهو قياسٌ مُهْمَلٌ‏.‏ إلاّ أن البِدْعَةَ قد تكون مكروهةٌ تنزيهًا، وقد تكون مكروهةً تحريمًا، كالنهيِّ، فإنه قد يُفيدُ التحريم، وقد يُفِيدُ التنزيه، فيجري هذا التقسيم في البِدْعَةِ أيضًا‏.‏

ولذا اعترضَ ابن الهُمَام رحمه الله تعالى على صاحب «الهداية» حيث قال‏)‏ إن تحليقَ ربع الرأس يكفي للتحليل عن إحرام الحجِّ، قياسًا على ربع الرأس في باب الوضوء، فقال ابنُ الهُمَام رحمه تعالى‏:‏ إنه من قياس الشَّبَه، لا من قياس المعنى، فإنه يكون باشتراك العِلَّة المقتضية للحكم‏.‏ وقياسُ الشَّبَهِ يكون كتشبيه أهل المعاني، فَجَزَم أن تحليقَ الربع لا يكفي‏.‏ وكذا في «الهداية»‏:‏ إن الاستقبالَ إلى الحجر الأسود، كالاستقبال عند التحريمة، فاعترض عليه‏:‏ إنه قياسٌ صوريٌّ‏.‏ وقد أَجَبْتُ عنهما‏.‏

باب‏:‏ ما جاء في الثُّوم النِّيءِ والبصل والكُرّاث

ويُسْتَبْعَدُ من المصنِّف رحمه الله تعالى أنه صَدَرَ أولا بقول النبي صلى الله عليه وسلّم ثم رواه بالمعنى‏.‏ ولم يَفْعَل كذلك في موضعٍ من كتابه غير هذا‏.‏ واعلم أن كلَّ شيءٍ له رائحةٌ كريهةٌ يُكْرَهُ أن يَذْهَبَ به إلى المسجد‏.‏ وكذا يُكْرَه له أن يَدْخُلَ في المسجد، وريحُه في فمه‏.‏ ولعلَّ تلك الكراهة فوق التنزيه لِمَا في الفِقْهِ‏:‏ أن السَّمَّاك لو كان القومُ يتأذَّى منه، يجوز إخراجه من المسجد‏.‏ وكذا الجذامي، والمبروص‏.‏ وفي «الموطأ» لمالك‏:‏ «أنهم كانوا يَطْرُدُونَ نحو هؤلاء من المسجد إلى البقيع»‏.‏ وهي المسألةُ في قراءتهم الأذكار في هذا الحال، فينبغي أن لا يُجِيبَ المؤذنَ وهو يأكل النتن، ولا يَدْخُلُ المسجدَ إلا بعد إزالة رائحته‏.‏ وفي الحديث‏:‏ «إنكم إذا استيقظتم من الليل فنظِّفُوا فَمَكم، فإنكم ما تكلَّمُون بكلمةٍ من الذكر إلا يَضَعُها المَلَكُ في بطنه- بالمعنى ‏.‏

وتفرَّد ابن حَزْم حيث ذَهَبَ إلى حُرْمَة هذه الأشياء، لأنها مانعةٌ عن الجماعة، وهي فرضُ عينٍ عنده‏.‏ وقال الجمهور‏:‏ إنها حلالٌ كلُّها، إلا أنها ممنوعةٌ في الأوقاتِ المخصوصةِ لأجل العوارض، فليست فيها كراهةُ الأكل، بل كراهةُ الذكر، أو الإتيان إلى المسجد بعد الأكل‏.‏

والعجبُ على تَهَوُّرِ هؤلاء الذين يَحْكُمُون بالحُرْمَةِ على الأشياء التي أُكِلَت في عصر النبوة وحضرتها‏.‏ فإذن هي حلالٌ إِلا ماوقع في بعض الكُتُب من حُرْمة النتن أو التمباك، فالوجهُ فيه أنهم صَرَّحُوا أن المباحَ في نفسه قد يَصِيرُ حرامًا من حكم الأمير من جهة أن الله أمر بطاعتهم، فقال‏:‏ ‏{‏أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِى الاْمْرِ مِنْكُمْ‏}‏ فحينئذٍ لو رَأَى الأميرُ أن يَمْنَعَ الناسَ عن أكل شيءٍ لمصلحةٍ بَدَتْ له، يجب عليهم أن لا يَأْكُلُوه، ويَحْرُم عليهم‏.‏ إِلا أن تلك الحُرْمة تَقْتَصِرُ على مدَّة إمارته فقط، ولا يتجاوزها، فهي حرمةٌ مؤقَّتةٌ‏.‏ ومن هذا الباب تحريم التمباك، فإنه قد نهى عنه بعض السلاطين، فاحفظه‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فلا يَقْرَبَنَّ مَسْجِدَنَا‏)‏، مع أنه لم يكن في خَيْبَر مسجدٌ، فإذن هو مسجدٌ عارضيٌّ كان يُعَدُّ للصلاة ما دام القيام هناك، كما مرَّ منا من قبل‏.‏

فائدة

واعلم أن الزَّيْلَعِيَّ إذا يُخَرِّجُ حديثًا غريبًا، يُنَبِّهُ أولا على غرابته، ثم يُخَرِّجُ ما يكون في معناه‏.‏ بخلاف الحافظ، فإنه يُخَرِّجُ أحاديث الشافعية، ولا يُنَبِّهُ على غرابتها‏.‏

باب‏:‏ وُضُوءِ الصِّبْيَانِ، وَمَتَى يَجِبُ عَلَيهِمُ الغَسْلُ وَالطُّهُورُوَحُضُورِهِمُ الجَمَاعَةَ وَالعِيدَينِ وَالجَنَائِزَ، وَصُفُوفِهِم

وهو صحيحٌ عندنا أيضًا، وسَهَا من نَسَبَ إلينا خلافه‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ومتى يَجِبُ عليهم الغَسْلُ والطَّهُور‏)‏، ولم يَجِبْ عنه، لأن وُجُوبَهُمَا عند وُجُوبِ سائر الأحكام وهو عند الاحتلام، إلا أنه يُؤَمَرُ قَبْلَه للاعتِياد‏.‏ وقال أحمد رحمه الله تعالى‏:‏ ويُفْتَرَضُ عليه إذا بَلَغَ عَشْر سنين‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وحُضُورِهم الجَمَاعَةَ‏)‏ وصلاتهم تقع عندنا نَفْلا وإن صَلُّوها فريضةً‏.‏ ولا بِدْع عندي ولا بُعْد في أن تَقَع عنهم فرضًا مع كونهم غيرَ مكلَّفِين، كالإسلام فإِنَّهم قالوا‏:‏ إن الصبيَّ إذا أسلمَ يقعُ عن فَرْضِه وإن لم يكن فَرْضًا عليه‏.‏ فهكذا الصلاة، فإِنه لم يُصَرِّح أحَدٌ بخلافِهِ، وإن لم يصرّح به أيضًا‏.‏ ونَسَب إلينا النوويُّ أَنَّ حجَّ الصبيِّ لا يُعتبرُ عندنا، وهو باطِلٌ‏.‏ نعم يقعُ نَفْلا ولا يُعتبرُ عن حَجَّةِ الإِسلام‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وصُفُوفِهم‏)‏ ويَصُفُّ الصِّبيانُ مع الرِّجَالِ في صلاةِ الجنازة عندنا، وكذا في المكتوبةِ في بعض الصُّور‏.‏ وراجع تفصيله في كُتُب الفقه‏.‏

858- قوله‏:‏ ‏(‏الغُسْلُ يومَ الجُمُعَةِ وَاجِبٌ على كُلِّ مُحتَلِم‏)‏ وهو من الحُلْم- بالضم- لا مِن الحِلْم- بالكسر ‏.‏ والغُسْل واجب عند مالك رحمه الله تعالى، لكنهم يَقْسِمُون الوُجُوبَ إلى‏:‏ وُجوبِ سُنَّة، ووجوبِ افتراض‏.‏ وعندي هو واجِبُ في بعض الصور عندنا أيضًا، وإن لم يصرِّحُوا به لكنه تقتضيه قواعدهم، وهو عند تأذِّي القوم، كما حققه ابن عباس رضي الله عنه- عند أبي داود- حين سُئِل عن وُجوبِ الغُسْل‏.‏ فقال‏:‏ «إنَّ الناسَ كانوا في قلة الثياب في أول أمْرِهم فيعرقون وينتشر عنهم النتن‏.‏ فإِذا وَسَّع اللَّهُ عليهم زال الوجوبُ»، لانتفاء العلة‏.‏ وعُلِم منه أن الوجوب فيه يَدُورُ مع عِلَّة التأذي، فلو تحقق الآن يعود الوجوب أيضًا‏.‏

ثُم إنَّه يجوزُ عندي أن يَدْخُل الوجوبُ والاستحبابُ تَحْتَ أمرٍ واحدٍ، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً‏}‏ ‏(‏الأحزاب‏:‏ 56‏)‏‏.‏

أطلق على الفَرْض والنَّفْل جميعًا، وبَعيدٌ عندي كل البُعْد أن يكونَ مصداقُه هو صلاتَه مرةً في عمره فقط، وأما الباقيةُ فتبقى خارجةً عنه‏.‏ فالحقُّ أن الأمر كما في اللغة للطلبِ فقط، وصِفَةُ الوجوب والتطوع من الخارج‏.‏ نعم إذا ورد مُؤقتًا يُحْمَل على الوجوبِ‏.‏ وقد بسطتُ الكلامَ عليه في رسالتي «فصل الخطاب»، وكشف الستر» شيئًا‏.‏

863- قوله‏:‏ ‏(‏ولو مَكَانِي مِنْه ما شَهِدتُه- يَعْني من صِغَرِهِ‏)‏ وله شَرْحانِ فراجع الحاشية‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏أَتَى العَلَمَ الذي كان عِنْد دارِ كَثِير بنِ الصَّلْت‏)‏ ولَعلَّه كان هناك موضِعٌ مُرْتَفِعٌ، وهو تعريفٌ له بشيءٍ حَدَث بعد عَصْر النبيِّ صلى الله عليه وسلّم فإِن تلك الدارَ لم تكن في زَمَنِه صلى الله عليه وسلّم

باب‏:‏ خُرُوجِ النِّسَاءِ إِلَى المَسَاجِدِ بِاللَّيلِ وَالغَلَس

باب‏:‏ انْتِظَارِ النَّاسِ قِيَامَ الإِمَامِ العَالِم

باب‏:‏ صَلاةِ النِّسَاءِ خَلفَ الرِّجَال

ويستفاد من الأحاديث أن النِّسَاءَ كُنَّ يَحْضُرْنَ الجماعات في المكتوباتِ والعيدين مطلقًا‏.‏ وكذا في هذا الكتاب‏:‏ «لا تمنعوا إماءَ اللَّهِ عن المساجدِ»‏.‏ فهذا عَمَلٌ وذاك قَوْلٌ‏.‏ ومع ذلك ذهبَ الفقهاءُ إلى التضييق‏.‏ ومَنَعَهُنَّ المتأخرونَ مِن الخروج مطلقًا‏.‏ ويؤيد ما عند أبي داود عن عائشةَ رضي الله عنها قالت‏:‏ «لو أَدْرَكَ رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلّم ما أحدثَ النِّساءُ لَمَنَعُهنَّ المساجدَ كما مُنِعَتْ نساءُ بني إسرائيلَ»‏.‏ وهو عندي عن ابن مسعود رضي الله عنه مرفوعًا‏.‏ وقِصَّةُ عمرَ رضي الله عنه مع زوجَتِه حيثُ كانت تَذْهَبُ إلى المسجد‏.‏ وهي في البخاري ومَرَّت من قِبَلْ‏.‏ ورَاجِع كَرَاهةَ خُرُوجِهنَّ عن ابن المُبَارك عن الترمذي‏.‏

واعلم أن ههنا سِرًّا وهو أَني لم أَرَ في الشريعة تَرغيبًا لهن في حضورهن الجماعة، بل عند أبي داود ما يخالِفُه، فعن ابن مسعود رضي الله عنه مرفوعًا قال‏:‏ «صلاةُ المرأةِ في بيتِها أَفْضَلُ مِن صلاتها في حُجْرَتِها، وصلاتُها في مَخْدَعِها أَفْضَلُ مِن صلاتِها في بيتها»‏.‏ ا ه‏.‏ وهذا يدلُّ على أنَّ مَرْضَى الشَّرْع أن لا يَخْرُجن إلى المساجدِ‏.‏ وفي حديث آخر‏:‏ «إنْ كان لا بُدَّ لَهُنَّ مِن الخروجِ فليخرجن تَفِلاتٍ بدونِ زينةٍ، فلا يَتَعَطَّرْنَ، فإِن فَعَلْن فهنَّ كذا وكذا»‏.‏ يعني زوانٍ‏.‏ فهذه إباحةٌ لا عن رضاءٍ منه، كإباحة الفاتحة للمُقْتَدين‏.‏ فلم يرغِبْهُنَّ في الخروج، ونهى الأزواجَ عن مَنْعِهنَّ عن الخروج أيضًا‏.‏

وهكذا فَعَل في باب الصدقة، فأمر المتصدِّقين بإِرضائهم‏.‏ قالوا‏:‏ «وإن ظلمونا قال‏:‏ وإن ظلموكم»‏.‏ ثُم هَدَّد العاملين أيضًا‏.‏ ونحوه سَلك في طاعةِ السلطان فأوجبها ما لم يكن كُفْرًا بَواحًا، ثم أوعد السلاطين الجائرين أيضًا‏.‏ وهكذا صَنيعه في النكاح فقال‏:‏ «لا نكاح إِلا بوليَ»‏.‏ ثم أثبت لها حَقَّا فقال‏:‏ «الأيم أحقُّ بِنَفْسها من وَليِّها»‏.‏ فهذه كلُّها أبوابٌ من قَبيل واحدٍ‏.‏ وسنقرره في النكاح إن شاء الله تعالى‏.‏

866- قوله‏:‏ ‏(‏كُنَّ إذا سَلَّمْنَ مِنْ المَكْتوبةِ قُمْنَ، وَثَبت رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلّم وَمَنْ صَلَّى مِن الرِّجَالِ‏)‏ وذلك لئلا يلزمَ الاختلاطُ في الطريق‏.‏

باب‏:‏ سُرْعَةِ انْصِرَافِ النِّسَاءِ مِنَ الصُّبْحِ، وَقِلَّةِ مَقَامِهِنَّ فِي المَسْجِد

باب‏:‏ اسْتِئْذَانِ المَرْأَةِ زَوْجَهَا بِالخُرُوجِ إِلَى المَسْجِد

يقول‏:‏ على الرجال أن لا يبادِرُوا بالخروج، وعليهن أن يَتَسارَعْنَ إلى الخروجِ، ولا يكثرون في مقامهن في المسجد، لئلا يتحرَّجَ الرجالُ، فعليهم انتظارُ خروجِهنَّ، وعليهن السرعةُ إلى القيام‏.‏

872- قوله‏:‏ ‏(‏ولا يَعْرِفُ بَعْضُهُنَّ بَعْضًا‏)‏ وهذا صريحٌ في عدم معرفةِ الشَّخْص دونَ معرفةِ الذَّكَر من الأُنثى، كما أوَّل به النوويّ‏.‏

872- قوله‏:‏ ‏(‏لا يُعْرَفْنَ مِن الغَلَس‏)‏ أي لا يُعْرَفُ الرجالُ من النساءِ‏.‏

كتاب‏:‏ الجُمُعَة

باب‏:‏ فَرْضِ الجُمُعَة

واعلم أنَّ الجُمعةَ امتازت عن سائر الصّلوات بشروطٍ إجماعًا‏.‏ فلم يذهب أحدٌ منهم إلى التسوية بين الجُمعة وسائر الصّلوات‏.‏ نعم اختلفوا في شرائطها‏:‏ فشرَط إمامُنا لها المِصْرَ، والآخرون شرطوا العدد‏.‏ فقال الشافعيّ رحمه الله تعالى‏:‏ أربعين رجلا، وهو عند أحمد رحمه الله تعالى، وفي رواية عنه‏:‏ خمسون‏.‏ وعند مالك رحمه الله تعالى‏:‏ ثلاثونَ، وفي رواية‏:‏ عشرون‏.‏ وراجع «نيل الأوطار»‏.‏ فلو كان في قرية أقلُّ من عشرين رجلا لا جمعةَ عليهم إجماعًا بين الأئمة‏.‏ أما عند الإمام فلفقدان المِصْر، وأما عندهم فلفُقْدان العدد، فَمَنْ أوجب الجمعةَ مطلقًا فقد خَرَق الإِجماع‏.‏

وعن الشافعيّ رحمه الله تعالى أنّها فرضٌ على الكفاية‏.‏ نقله الخَطَّابيّ رحمه الله تعالى- وهو أوّلُ شارح على أبي داود‏.‏ وادَّعى النّاس أنّها فَرْضُ عينٍ بالإجماع‏.‏

قلت‏:‏ ولعلّ تلك الروايةَ ثابتةٌ عنه، فإنّك إن راعيت شرائطَها ثُم أردت أن تحكم عليها لا يَسُوغ لك إلا الحُكْم بالفَرْضِ المعيَّن‏.‏ وإن قطعت النظر عنها جاز لك أن تقول‏:‏ إنّها فرض كفاية، بمعنى أنّها واجبةٌ على البعض دون البعض لفقدان الشرائط في حقهم‏.‏ وهذا كأَمرِ الجماعة، فإنّك إن نظرت إلى الوعيد الوارد على تاركها تحكمُ بالوجوب بتًا‏.‏ وإن لاحظت معه المعاذير الواردة فيها لا يَسُوغ لك إلا الحكمُ بالسنيِّة فاعلمه‏.‏ وقال الشيخ ابن الهمام‏:‏ إنّ الجمعة آكَدُ الفرائض وقد مرّ‏.‏

ثم اعلم أنَّ الجمعة فُرِضَتْ بمكة ولم يتمكن النبيُّ صلى الله عليه وسلّم من إقامتها فيها حتى ورد المدينة، فنزل في قُباء أربعةَ عشرَ يومًا ولم يُقِم الجمعة، وأوّل جمعة أقامها في بني سالم مَحَلَّةٌ من المدينة‏.‏ ونقل الحافظ رحمه الله تعالى في «التلخيص» أنَّ الجمعة فُرضَت بمكة، ولم يَنْقُل إسناده وهو موجود عندي، إلاّ أنّ فيه راويًا ساقطًا‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏إذا نُودي‏)‏ وفي ألفاظ النِّداء تفتيشٌ أنها كانت بالكلمات المعروفة أو غيرها‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فاسعَوْا‏)‏، وفرَّق اللّغويون بين قوله‏:‏ سعى له، وسعى إليه‏.‏ ومعناه ههنا فامضوا كما في قراءة عمرَ رضي الله عنه‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ذلكم خيرٌ لكم‏)‏ ومرَّ عليه ابنُ تيمية وقال‏:‏ إنَّ السَّعي إليها فرضٌ بالإجماع، ومع ذلك أطلق عليه لفظ الخير‏.‏ وفيه دليل أنَّ الخيرَ يطلق على الفَرْض كما قلت في حديث «أمراء الجَوْر»‏:‏ «فإنّها لك نافلة»، أطلق لفظ النّافلة على المكتوبة‏.‏ وفي أحاديث فضل الوضوء أنه يتوضأ فتنحَطّ عنه سيئاته، حتى تبقى له الصّلاة نافلة‏.‏

876- قوله‏:‏ ‏(‏ثُم هذا يومُهُم الذي فُرِض عليهم‏)‏ واختَلف فيه الشّارحون، فقيل‏:‏ إنّه افترِض عليهم عينًا، ثم اختلفوا فيه، وقيل‏:‏ بل فُوِّض إلى اجتهادهم فلم يُصيبوا وأخطأوا في تعيينه‏.‏

فائدة

واعلم أن السبت هو التّعطيل في اللُّغة العِبْرانية‏.‏ وقد ثبت عندي من التوراة أن السبت كان اسمًا للجمعة ولا أدرى متى وقع فيه التحريف، وكُتِبَتْ شروح التوراة في بيت المقدس وبابلٍ ويقال لها «كمارى»، وفيها أنَّ موسى عليه الصّلاة والسّلام كان يَعِظُهم يوم الجمعة ويبشِّرُهم بنبأ النَّبيِّ السّبتيّ، وفي الرِّوايات أنّه لما حارب مع العمالقةِ وكادت الشّمس أن تغرُبَ قبل أن يُفتَح له، دعا اللَّهَ سبحانه أن يُؤخِّر غروب الشّمس وكان غدًا الجمعة‏.‏

وفي الإنجيل أنّهم صلبوا رجلا يوم الخميس، فبادروا فيه لئلا يأتي عليهم السَّبت، فدلَّ ذلك كلُّه على أن السَّبت في التّوراة هو يوم الجمعة‏.‏

ثمّ اعلم أن تكوين العالم بدأ من يوم السّبت المعروف الآن‏.‏ وتمَّ يومُ الخميس ولم يَخْلُق في يوم الجمعة هذه شيءٌ واستوى الرّحمن على العرش كما يليق بشأنه المقدَّس، وبعد مرور أزمانٍ- يعلم اللَّهُ قدرها- خلق آدم في آخِر ساعة من يومِ الجمعة‏.‏ فتبادر إلى الأوهام أنه خُلق في يوم الجمعة من هذا الأسبوع‏.‏ والصّواب عندي ما قرّرت‏.‏ ولذا ترى في الآيات أنّ الله سبحانه وتعالى كلما ذكر خَلْقَه العالَمَ ذكر بعده الاستواء على العرش لأنّه كان في الخارج كذلك، فإنّه لما فرغ من تكوين العالم استوى على عرشه ولم يخلق شيئًا، حتى إذا كان في جمعةٍ أخرى بعدها بكيثر خلق آدم‏.‏

ثمّ اعلم أن الجمعة تذكرةٌ لحفلةٍ تقوم في الآخرة على قدر تلك الأيام، فيجتمع فيها المؤمنون والأنبياء والصّديقون على منازلهم، وتحصل لهم الرؤية كما في الأحاديث‏.‏

876- قوله‏:‏ ‏(‏اليهُودُ غدًا والنَّصَارَى بَعْدَ غدٍ‏)‏ عندي‏:‏ تنقلب الأيام والجهات في المحشر، فأوّل أيام الدنيا هو السّبت وآخرها الجمعة، فتكون الجمعة في المحشر أوّل أيامه، فنحاسَب أولا، ويكون الآخَرون سابقين كما في الحديث‏.‏ وقد مرَّ معنا التنبيه على أنَّ عند المصنّف صحيفةً فيها نحو مئةُ حديث وأوَّلُها‏:‏ «نحن الآخرون السّابقون»، فإذا أراد المصنف رحمه الله تعالى أن يُخرِج حديثًا منها أخرج أولا هذا الحديث، ثم أخرج الحديث الذي يريده إشارةً إلى أنّ هذا الحديث من تلك الصحيفة، كما عند مسلم أيضًا صحيفةٌ وهو يشير إليها أيضًا بنحوٍ آخر، وقد قرّرناه من قبل والغافل يذهَل عنه، ويُتعِب نفسه، ويُضيَّع وقته في إيجاد المناسبات ولا يستطيعه، فتشمَئِزُّ نفسه ففرِّج عنك الكرب فإنه لا تكون له مناسبةٌ غير أنه يكون إشارةً إلى الصحيفة فقط‏.‏

باب‏:‏ فَضْل الغُسْلِ يَوْمَ الجُمُعَةِ، وَهَل عَلَى الصَّبِيِّ شُهُودُ يَوْمِ الجُمُعَةِ،أَوْ عَلَى النِّسَاء

عبرُ بالفضل فلعلّه إشارةٌ إلى عدم وجوبه‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وهل على الصّبيِّ شهودُ يوم الجمعةِ، أو على النِّساء‏)‏ ولم يُجِبّ عنه لأنَّه لم يكن عنده لذلك دليلٌ من الحديث الذي أخرجه‏.‏ وذهب الجمهور إلى عدم وجوب الجمعة على هؤلاء، ومع ذلك اتّفقوا على أنّهم لو شهدوا الجمعة تقع عن فَرْض الوقت، واستثناؤهم موجودٌ في صريح الرواية عند أبي داود وغيره‏.‏

877- قوله‏:‏ ‏(‏إذا جاء أَحَدُكُمْ الجمعةَ فليغتَسِل‏)‏ ولفظ أحدِكم يدل على أن الآتي ليس كلا منهم بل فيه استثناء في نظر الشارع، وفي رواية تالية‏:‏ «غسل يوم الجمعة واجب»، وهو عندي‏:‏ محمول على الجنس أو على المبالغة، ولا يصح تأويل الواجب بمعنى الثابت وقد مرَّ الكلام فيه آنفًا‏.‏ وفيهِ دليلٌ على أن حال الجمعة ليس كسائر الجماعات، بل لها شرائطُ ليست لغيرِها كما قرَّرنا‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فناداهُ عُمَرُ رضي الله تعالى عنه وكان يخطُب‏)‏‏.‏ وفي «فتح القدير»‏:‏ أنّ الأمر والنّهي في الخُطبة يجوز للإمام دون القوم، والرجل الجائي هو عثمان ذو النورين رضي الله عنه، كما هو عند التّرمذي‏.‏ ولم يأمره بالرجوع والغُسْل، فدل على عدم الوجوب‏.‏

879- قوله‏:‏ ‏(‏كلِّ مُحْتَلِم‏)‏ ودلّ مفهوم النّعت أن لا وجوبَ على الصِّبيان والنِّسوان، وبه وافق الترجمة‏.‏

باب‏:‏ الطِّيبِ لِلجُمُعَة

880- قوله‏:‏ ‏(‏الغُسلُ يومَ الجمعة واجبٌ على كل محتلِم وأن يَسْتَنَّ‏)‏ قيل‏:‏ إن الاستنان إذا لم يكن واجبًا فكيف يجب الغسل، فإنّ السياق واحد‏؟‏ وأجيب‏:‏ بأن قوله‏:‏ «وأن يستن» مدرَج‏.‏

880- قوله‏:‏ ‏(‏أما الغُسْل فأشهد أنّه واجِبٌ، وأما الاستِنان فالله تعالى أعلم‏)‏ وهذا يدلُّ على أن الراوي فَهِم الكلَّ مرفوعًا‏.‏

باب‏:‏ فَضْلِ الجُمُعَة

881- قوله‏:‏ ‏(‏غُسْلَ الجنابة‏)‏ مفعول مطلق للتشبيه‏.‏

881- قوله‏:‏ ‏(‏ثُمَّ راح فكأنّما قرَّب بَدَنَةً‏)‏ الخ‏.‏ وفيه مراتب الفضل في حضور الجماعة‏.‏ وتلك الساعاتُ تبتدِىء من الصّبح عند الجمهور‏.‏ ومن الزَّوال عند المالكية‏.‏ فتكون تلك لحظاتٍ خفيفة تمسكًا باللفظ‏.‏ فإِنه في اللّغة يُستعمَل فيما بعد الزَّوال‏.‏ وتمسّك الجمهور بتعامل السّلف وكانوا يروحون من غداة الجمعة ثم يَرجِعون إلى بيوتهم بعد قضائها ويَتغذّون ويَقيلون‏.‏ والمسائل لا تُبنَى على اللّفظ الواحد بل لا بد من النّظر إلى التعامل كما مر منا التنبيه عليه‏.‏ ثم عند النّسائِّيّ مرتبةٌ سادسةٌ أيضًا‏:‏ وهي مرتبة البَطّ والعصفور‏.‏ والبَدَنة عندنا تطلق على البعير والبقر‏.‏ وعندهم على الأوّل فقط‏.‏ ووافقهم على كلِّ ذلك اللغويون كلُّهم‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏شاة‏)‏ والتاء في الحيوانات تكون للوِحْدة دون التأنيث، وهي تَعمُّ المَعِزَ والضّأن‏.‏

881- قوله‏:‏ ‏(‏قرَّب دجاجةً‏)‏ واعلم أنه لم يُرِد بهذا السياق تعليم مسألة الأضحية، بل أراد التنبيه على مراتب الحاضرين في الجمعة الأول فالأول، وذِكْرُ هذه الحيوانات على نحو التشبيه وتَنزيلُه مَنزلة الأضحية لا يُؤخَذُ عنه جوازُ أضحيةِ الدّجاجة كما قاله بعضُ الجاهلين، ولذا لم يَجْرِ بِهِ تعامُلُ السَّلَف ولا عَمِل به واحدٌ منهم، وإلاّ وجب أن تَصِحَّ أضحية البيضة أيضًا، فإِنّها ثَبَتَت عند مسلم في رواية أيضًا‏.‏

881- قوله‏:‏ ‏(‏فإِذا خرج الإِمام‏)‏ إلى المسجد إن لم يكن فيه، أو إلى المِنْبَر إن كان فيه‏.‏

881- قوله‏:‏ ‏(‏حضرت الملائكة يَستمِعون الذّكر‏)‏ تَمَسَّك به الشيخ العينيّ رحمه الله تعالى على وجوب الاستماع‏.‏ قلت‏:‏ وهو استنباطٌ لطيفٌ لكن كَونُه حجةً قاطعةً على الوجوب فيه خَفَاء‏.‏ وقد مرّ معنا في جواب الأذان عند الخطبة ثلاثةُ أقوال للحنفية‏.‏ والأرجح عندي أن يُجيبَه إن لم يكن أجاب الأذان الأوّل‏.‏

باب‏:‏ الدُّهْنِ لِلجُمُعَة

883- قوله‏:‏ ‏(‏إلا عُفِر له ما بينَهُ وبينَ الجُمُعَةِ الأُخْرَى‏)‏ وعند مسلم‏:‏ وزيادة ثلاثة أيام، بحساب الحسنة بعشرة أمثالها، ولا يَستقيم الحسابُ إلاّ إذا عُدَّت الأيامُ من صلاة الجمعة إلى صلاة الجمعة فإنّها سبعة، وإن عَدَدْتَها من اليوم إلى اليوم حَصَلَت الثمانية، ومع زيادةِ ثلاثةِ أيام يَحْصَل أحدَ عَشَر‏.‏

884- قوله‏:‏ ‏(‏أمّا الطّيبُ فلا أَدري‏)‏ هذا مع أنّ ابن عباسٍ رضي الله عنه يرويه بنفسه عند أبي داود ولعله نفي عِلْمه بِلِحاظِ قَيْدٍ في نفسه كالوجوب مثلا‏.‏

885- قوله‏:‏ ‏(‏إنْ كانَ عِنْدَ أَهْلِهِ‏)‏ ولمّا كان عندهم طِيبُ الرّجال ما خَفِي لونَه وظَهَر ريحُه على عكس طِيبِ النّساء سَئَلَ أنّه إذا لم يكن عنده من طيب الرّجال، فهل له أن يَتطيَّب بطيبٍ عند أهله‏؟‏ فأجابه ابن عباس رضي الله عنه أنّه لا يَعْلَمُه‏.‏

باب‏:‏ يَلبَسُ أَحْسَنَ ما يَجِد

886- قوله‏:‏ ‏(‏حُلَّةَ سِيرَاءَ‏)‏ قال سيبويه‏:‏ إنه يجوز بالإِضافة والنَّعت كِلَيْهما، وكانت من حريرٍ‏.‏ والسِّيَراء المُخَطّط‏.‏

886- قوله‏:‏ ‏(‏وللوَفْد إذا قَدِموا عليك‏)‏ وكانت له عِمامةٌ يَلْبَسها للوفود‏.‏

886- قوله‏:‏ ‏(‏مَنْ لا خَلاق له في الآخِرة‏)‏ وذهب بعض العلماء إلى أنّ لابسَ الحرير وشاربَ الخمر يُحرَم منهما في الجنّة أيضًا‏.‏ لأنّه تَتَشَوَّف إليهما نفسُه ثم لا يُعْطَى، ولكن لا تَشْتهي‏.‏

886- قوله‏:‏ ‏(‏كَسَوْتَنِيها‏)‏ كأنّ عمر رضي الله عنه فَهِم أنَّ ما يكون حرامًا يَحْرُم به الانتفاعُ مطلقًا، فأجاب عنه أنّ هذا الطّرْدَ غَلَطٌ، ولكنَّه حرامٌ لُبْسُه فقط، فقال‏:‏ إنّي لم أَكْسُكَها، ويَسْتَفيد منه الفَقيه أنّ البيعَ يَعتمِد المُلكَ دون الاسْتِعْمال‏.‏ ثمّ أقول‏:‏ إنّ الحرام إذا لم يُنْتَفع منه بجْزءٍ من جُزْئِيِّاته فَجُمْلَتُه أيضًا حرامٌ، وإلا لا كالحرير، فإِنه وإن كان حرامًا لكن جاز للنِّساء، ولو كان حرامًا بجميع جُزْئياته لما جاز بيعُه وشراؤُه وحَرُمَت التّصرّفاتُ كلُّها‏.‏ وفِي «الهداية»‏:‏ أنّ الكِسْوة قد تكون من ألفاظِ العارية، وأُخْرَى من ألفاظ الهِبَة، وتُبنَى على القَرائِن‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فكَسَاه عمرُ بنُ الخطَّاب أخًا له بمكّة مُشْرِكًا‏)‏ قد عَلِمْتَ أنّ المُلك يَثْبُت فيه للمُسْلِم أيضًا فكيف بِمَن كان كافرًا‏.‏ ويُمْكِن أن تُجْرَى فيه مَسألةُ كونِ الكفَّارِ مُخاطِبين بالفروع، وفيها ثلاثةُ أقوالٍ للحنفية‏:‏ قيل‏:‏ إنّهم مُخَاطِبون أداءً واعتقادًا، وقيل‏:‏ لا أداءً ولا اعتقادًا، وقيل‏:‏ اعتقادًا لا أداءً، كذا في المنار‏.‏ وهذا البحث كلِّه في عذابِ الآخِرة، فيُعَذَّب عند الأَوّلين على تَرْكِهما، وعند الثّاني لا يُعَذَّب إلا على ترك الإِيمان، وعند الثَّالث على تَرك الاعتقاد فقط، ولم يَذْهَبُ أحدٌ منهم إلى إيجاب قَضَاء الصّلوات أو الصّيام بعد الإِسلام، والمختار عندي هو الأول، واختاره صاحب البحر في شرح المنار ولم يُطْبَع، وهكذا عند الشّافعيّةِ والمالكيّة والحنابلة‏.‏

واعلم أنّ ما يَظْهَر بعد سَبْر فِقْه الحنفيّة أنّهم يُغايرون بين أحكام المسلم والكافر في كثيرٍ من الأحكام؛ بخلاف الآخرين فَهُم فَهِموا أنّ الدّين إذا نزل من السّماء وجب على العباد قَبوله كائنًا ما كان، فإِذا ترافعوا إلينا نَحْكُم بينهم بشريعتنا ونُخْبِرُهم على قَبولِه فإِنّ الدّار دارنا، نَعَمْ إذا كانوا في دار الحرب فالجَبْر غيرُ ممكنٍ لانقطاع الولاية‏.‏ وفَهِم الحنفيّة أنّا إذا تركناهم وما يَدينون ذِّمةً لنا فَحُكْمُهم في دارنا كحكمهم في دار الحرب فَتَرْكُهم وما يَدينون‏.‏ وراجعْ الهداية من نكاح الكافر، ومن العِدَّة من نكاحِ أهلِ الشِّرك فإنّه أهمُّ ويَحتاج إلى تحريرِ المقام‏.‏

تنبيه

واعلم أنّ الصِّحة والفساد من أحكام الدنيا، والحِلَّ والحُرْمة من أحكام الآخرة، فالأقوال الثّلاثة في الحلّ والحرمة‏.‏

باب‏:‏ السِّوَاكِ يَوْمَ الجُمُعَة

وهذا الحديثُ لمّا كان على شَرْطه فكان المناسب له أن يُخَرِّجه في أبواب الوضوء لأنَّه من سُنَن الصَّلاة والوضوء على اختلاف الأصلين‏.‏ ومع هذا لم يُخَرِّجه فيه وراجع الكلام في أبواب الوُضوء، ومُرادُ الحديث أنّي مأمورٌ بالسّواك ولولا مَخافةُ المشقّةِ لأَمَرْتُكُم به أيضًا كما قد أُمِرْت‏.‏

باب‏:‏ مَنْ تَسَوَّك بِسِوَاكِ غَيرِه

ولو بَوَّب به في أبواب الوضوء لكان أَحْسَن، فإنّ هذا البابَ ليس له كثيرُ تَعَلّقٍ مع أبواب الجمعة، وهو جائزٌ عندنا أيضًا إذا لم يُوجِب كراهةً، سِيَّما إذا كان القصدُ تحصيلَ التبرّك وكان المحلّ صالحًا‏.‏

باب‏:‏ ما يُقْرَأُ فيِ صَلاةِ الفَجْرِ يَوْمَ الجُمُعَة

وفي «البحر» أنّه يَنْبَغي المُراعاة في القراءة للسُّوَر المسنونة‏.‏

باب‏:‏ الجُمُعَةِ في القُرَى وَالمُدُن

ولم يُترجم لهذه المسألة إلا البخاريّ وأبو داود‏.‏

واعلم أنّ القرية والمِصْر من الأشياء العُرْفِية التي لا تكاد تَنْضَبِط بحالٍ وإن نُصَّ، ولذا ترك الفقهاء تَعريفَ المِصْر على العُرْف كما ذكره في «البدائع»، وإنما تَوَجّهوا إلى تحديد المِصْر الجامع، فهذه الحدود كلُّها بعد كونها مِصْرًا‏.‏ فإِنَّ المِصْر الجامع أخصُّ من مُطْلق المِصْر، فقد يَتَحَقَّق المِصْرُ ولا يكون جامعًا‏.‏

ورأيتُ في عبارة المتقدّمين أنّهم إذا ذَكروا الاخْتلاف في حدود المِصْر يَجعلونه في الجامع، ويقولون‏:‏ اختلفوا في المِصْر الجامع الخَ، فَتنبّت منه أنّهم لا يَعْنُون به تَعريفَ مُطْلق المِصْر، والنّاس لما لم يُدْرِكوا أمرَهم طَعنوا في تلك الحدود‏.‏ فمنها ما قال ابن شجاع‏:‏ إذا كان أهلُها بحيث لو اجتمعوا في أَكبر مساجدهم لم يَسَعْهم ذلك‏.‏ فقالوا‏:‏ إنّه يَصْدُق على أكثر القرى ولا يصدق على المسجد الحرام- أعزّه الله وأدام حُرْمَته- فنقضوا عليه طَرْدًا وعَكْسًا ولم يَتفقّهوا مُراده أيضًا، فإِنَّ هذا التعريفَ ليس للمِصْر بل للمِصْر الجامع‏.‏

وحاصله أنّ المِصْر الجامع هو الذي يَكْثُر أهله بحيث لا تَسَعُهم مساجدهم فَيَحتاجون إلى بناء مسجدٍ يَسَعُهم، وهو الذي بناه صاحب «العناية» فقال‏:‏ قال ابن شجاع‏:‏ أَحْسَنُ ما قيل فيه إذا كان أهلها بحيث لو اجتمعوا في أكبر مساجدهم لم يَسَعْهم ذلك حتى احتاجوا إلى بناء مسجدٍ آخر للجمعة، وهذا الاحْتِياج غالبٌ عند اجتماع من عليه الجمعة ا ه‏.‏ فَفَكِّر في لفظ حتى احتاجوا الخ فإِنَّه ليس عند عامّتهم مع أنّه لا يحتاج إليه إلاّ أنّه يُفيدُك في تحصيل المراد‏.‏ ويُستفاد منه ما قلنا من أنّ الحدّ المذكور فيمن وجبت عليهم الجمعة فاحتاجوا إلى بناء مسجد، لا فيمن لم تجِب عليه الجمعة بعدُوهم بِصَدَد إقامتها فجعلوا يُقدِّرون مساجدهم هل تسعُهم أو لا‏؟‏ وهذا أيضًا باعتبارِ الأغلب، فإِنَّه وَسِعهم أو لم يَسَعْهم ثمّ لم يَبْنوا مسجدًا آخر فإِنّه لا يَخْرُج عن كونه مِصْرًا، بشرطٍ إن كان مِصْرًا من قبلُ وكانت الجمعة واجبةً عليهم‏.‏ ولعلك قَطعتَ النّظر عمّا يَقعُ في الخارج ونزلتَ إلى العبارات فقط ولذا وقعتَ في الخَبْط ولو رَاعَيْتَ الحال في الخارج لما تَردّدتَ فيه فإنّهم يفعلون في الخارج كذلك، فإِذا كَثُر أهلُ قريةٍ لم تَسَعْهم مساجدهم فإنهم يحتاجون إلى بناء مسجدٍ يَجْمعون فيه‏.‏

وأَوْلى الحدودِ ما رُوي عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى‏:‏ كُلّ بلدةٍ فيها سِكَكٌ وأسواقٌ ولها رَساتيق «وترجمته باندى»، ووالٍ يُنصِف المظلوم من ظالمه، وعالم يُرجَع إليه في الحوادث‏.‏ وعند أبي يوسف رحمه الله تعالى وذَكَرَه أصحابُ المتون‏:‏ أنَّه كلَّ مَوضعٍ له أميرٌ وقاضٍ يُنفِّذ الأحكام ويُقيم الحدود، وهذا الحدّ ناظرٌ إلى ما في «الدُرّ المختار» من كتاب القضاء أنّ المِصْر شرطٌ لِنَفاذ القضاء في ظاهر الرِّواية، فالقضاة لا يُنصَبون إلاّ في المِصْر عندنا، ولذا عَرّف به أصحابُ المتون‏.‏ فإِن قُلتَ‏:‏ وعلى هذا يَنبغي أن لا تَجِب الجُمُعات على أهل المِصْر أيضًا في هذا العَصْر لِعَدم صِدْقِ الحدِّ المذكور، فأين القضاة، وأين إقامة الحدود‏؟‏ قُلتُ‏:‏ وقد صَرّح أصحابُنا أن المُلك إذا صار دارَ الحرب يَجْمَع بهم مَنِ اتّفق عليه القومُ، هكذا في المبسوط والشامي‏.‏

892- قوله‏:‏ ‏(‏بِجُواثَي من البحرين‏)‏ وعند أبي داود قريةٌ من قُرى البحرين، واحْتَجّ به القائلون بإِقامة الجمعة في القرى‏.‏ قلت‏:‏ كيف وجُوَاثَي لم تكن قريةً أصلا بل كانت مِصْرًا‏.‏ وفي الصّحاح‏:‏ أنّ جُواثًا حِصْنٌ بالبحرين، وهو الذي يُعْلم من أشعار الجاهليّة فيقول امْرُؤُ القَيْسَ‏:‏

وَرُحْنا كأنّا من جَوَاثَي عَشِيّةً *** نُعاني النِّعاج بين عِدْلٍ ومِحْقَبِ

فإِنَّه يُشَبِّهه حال رُجوعه من الاصْطِياد بحال التّجار عائدين من جُواثَي مَلآنَةٌ أَخْرَاجُهُمْ من أنواع الأمتعة فَعُلم أنّها كانت مَتْجَرًا لهم وكان أَسْلَمَ أهلُها، ثمّ إذا ظهر الارْتِدَاد في قبائل العرب بعد النَّبيّ صلى الله عليه وسلّم حاصَرَهم الكفّار، فقال قائلٌ منهم وكان مَحْصورًا من عَساكِرِ الرِّدة يُخاطِب أبا بكرٍ رضي الله تعالى عنه‏:‏

ألا أبْلِغ أبا بكرٍ سلامًا *** وفتيانَ المدينةِ أَجْمَعينا

فهل لكم إلى قومٍ ضِعافٍ *** قُعودٍ في جُوَاثَي مُحْصَرينا

كأنّ دِماءَهم في كلّ فَجٍ *** دماءُ البُدْنِ تَغْشَى النّاظِرينا

ويقول آخر‏:‏

والمسجِدُ الثّالث الشّرْقيُّ كان لنا *** والمِنْبَرانِ وفَصْلُ القولِ بالخُطَبِ

أيّامَ لا مِنْبَرَ في الناس نَعْرِفُه *** إلا بِطِيبَةَ والمَحْجُوجِ ذي الحُجُبِ

يشير إلى المنبر بِجُوائي، أما كونها قرية فهو كما في القرآن‏:‏ ‏{‏لولا أُنزِل هذا القرآنُ على رجلٍ من القريتين عظيم‏}‏ ‏(‏الزخرف‏:‏ 31‏)‏ فأطلقت على مكة أيضًا شرَّفها الله تعالى ثُمّ إن أهل السِّيرَ صرَّحوا بأن هذا الوَفْدَ قد حضر المدينةَ مرتين‏:‏ مرةً في السنة السادسة، ولعلها واقعةٌ تلك السنة، وأُخرى في الثامنة، وقَدِّر في نفسك أنه كم تكون البلادُ التي دخل إِليها الإِسلام في تلك المدة‏.‏ ثم يقول الراوي‏:‏ «إنَّ الجُمعَة فيهم كانت أولَ جُمعةٍ بعد جُمعةِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلّم فلو كانت الجُمُعاتُ تُقام في القُرى الصغيرة، وفي العشرين والأربعين من الرجال كما قالوا‏.‏ كيف جعلها أولَ جُمعةٍ‏؟‏ ألم تكن في تلك المدةِ قريةٌ أسلم من أهلِها عشرون نفسًا‏؟‏ فهذا من القرائن الدالة على أن لا جمعةَ في القُرى‏.‏ ولنا أيضًا ما في البُخاري ‏:‏ «مَنْ أحبَّ أن ينتظرَ الجمعةَ من أهل العوالي فَلْيَنْتَظِر، ومَنْ أَحب أن يرجِع فقد أَذِنْتُ له»‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وزاد الليث‏:‏ قال يونسُ‏:‏ وكتَب رُزَيْقُ بنُ حُكَيم إلى ابن شِهاب- وأنا معه يومئذٍ بوَادِي القُرَى ‏:‏ هل ترى أن أُجَمِّع‏؟‏ ورُزَيقٌ عامِلٌ على أرض يَعْمَلُها وفيهاجماعةٌ من السودان وغيرهم، ورُزَيقٌ يومئذٍ على أيْلَةَ، فكتب ابن شهاب- وأنا أسمعُ- يأْمُرُهُ أن يُجَمِّع‏)‏ ووادي القُرى في الجانب الغربي من العرب، وهناك قريةُ شُعَيب عليه الصلاة والسلام‏.‏ ويونس من سكان أَيْلَة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ورُزَيقُ عَامِلٌ‏.‏‏.‏‏.‏ إلخ‏.‏ يعني كان واليًا على أَيْلَةَ، ولم يكن إذ ذاك فيها، بل كان في أطرافها ونواحيها يحييها، فكتب إلى ابن شِهاب من نواحي أيْلَة إلخ‏.‏

قلت‏:‏ أولا‏:‏ يمكن أن يكون ذلك الموضعُ من فِنَاءِ المِصْر، ولا تحديد فيه عندنا، بل يُصغَّر الفِناء ويكبر بحسب صِغَر المِصْر وكِبَرِه‏.‏ فقد يكون الفِناء إلى أميال‏.‏ وقد ألف فيه صاحب «مراقي الفلاح» رسالة ولم تطبع‏.‏

ثم إنَّ السائل لعلَّه لم يسأله عن مسألة القرية والمصر، بل عن مسألة أخرى‏:‏ وهي اشتراط الإِذْن من الأمِير لإِقامة الجمعة‏.‏ وكام مذهبُ عمر بن عبد العزيز اشتراط الإِذن لها‏.‏ ولما كان رُزَيقٌ عاملا له على أَيْلَة، زعم أن إذْنه بإقامةِ الجمعة يمكن أن يكون مقصورًا عليها، ولا يتجاوز إلى ما حواليها، فحقِّقها، أَنَّه هل له إذنٌ في إقامة الجُمُعات في حوالي تلك المدينة أَم لا‏؟‏ فأجابه أن وِلايَتَك كما انسحبت على أَيْلَة كذلك على ما حواليها أيضًا، فيجب عليك أنْ تتعهد فرائِضَهم وتراعي رعايَتهم، لأنَّ كُلَّكُم راعٍ وكلَّكُم مسئولٌ عن رعيتِه‏.‏ فتمسَّك بهذا الحديثِ العام‏.‏

وحاصل الحديث عندي‏:‏ أن الإِنسان لا يخلو مِن نحو رعاية، فلو لم يكن له أحدٌ تجِب عليه رعايةُ ويُسأل عنها‏.‏ ولعلك فهمت منه أن الحديث المذكور لما كان في مسألة الإِذْن، لم يناسب إخراجه في تلك الترجمة، فإِنها في مسألة أخرى، بل هو أقربُ إلى مسألة الاستئذان، لأنه ورد في باب الوِلاية والرعاية لا للفَرْق بين القُرى والأمصار‏.‏

وهذا يَدُلّك ثانيًا‏:‏ أن رُزَيقًا أراد الاستئذان للجُمعة دون إقامة الجُمعة في القرى، كيف وقد ثبت عن عليَ رضي الله تعالى عنه- بإِسنادٍ على شرط الشيخين- عند عبد الرزاق أنه‏:‏ «لا جُمُعةَ ولا تشريقَ إلا في مِصْر جامع»‏.‏ والنووي أخرجه بإِسنادٍ ضعيفٍ وحَكَم عليه بالضَّعْف مع أن له إسنادًا يَشْرُقُ كشروق شمس الضحى‏.‏ وبه يقولُ حُذيفةُ اليماني رضي الله تعالى عنه‏.‏ وأما أَثَرُ عمر رضي الله تعالى عنه‏:‏ «جَمِّعُوا حيثُ ما كنتم» فخطابٌ للوُلاة، وكانوا يكونون في الأمصار دون القرى‏.‏

ومن ههنا فأدرك السِّر في اختلافهم في إقامة الجُمعات في القرى مع كونها من متواترات الدين‏.‏ وذلك لأنَّ الأمراء إذ ذاك كانوا في الأمصار وكان الناس مجتهدين في العمل فكانوا يصلونها مع الأمراء ولا يتخلفون عنها، فلما ظهر التواني في الأحكام ولم يرغب الناس في أدائها في الأمصار وجلسوا في قراهم ظهر الخلاف‏:‏ فذهب ذاهبٌ إلى أن عدمَ أداءِ السَّلف في القرى كان مبينًا على نفيها في القرى، وذهب آخرون إلى أن ذَهابهم إلى الأمصار كان لحوائجهم على عادة أهل البوادي وإن كانت الجمعةُ جائزةً بقراهم أيضًا، وهما نظران للأئمة رحمهم الله تعالى‏.‏

وأما ما رُوي عن أنس رضي الله تعالى عنه‏:‏ «إنه كان يُجمِّع وقد لا يُجَمِّع فمعناه أنه كان يُجمِّع حين ورد البصرة، وإذا أقام بقريةٍ لا يُجمِّع، وهذا عين ما قلنا لا أنه كان يُجمِّع، وهو في قرية‏.‏ وأما ما يأتي من أثر عطاء عند البخاري رحمه الله تعالى قال‏:‏ «إذا كنتَ في قريةٍ جامعةٍ ونُودي بالصلاة من يوم الجُمعةِ، فَحقٌّ عليك أَن تَشْهَدَها سمعتَ النِّداء أو لم تَسْمَعْه»‏.‏ فهو صريحٌ لمذهبنا لأنَّه نُقِلَ فيه الحافظ رحمه الله تعالى زيادةً عن عبد الرَّزَّاق، وفيه‏:‏ قلت لعطاء‏:‏ «ما القريةُ الجامِعة‏؟‏ قال‏:‏ ذاتُ الجماعة، والأمير، والقاضي والدُّور المجتمعة، الآخذُ بَعْضُها ببعضٍ مِثْل جدة‏.‏ ا ه‏.‏ وهذا يدل أن اصطلاح الجامعة قد كان فشا فيهم، ولذا قلت‏:‏ إنهم بصددِ حَدِّ المِصْر الجامع‏.‏

باب‏:‏ هَل عَلَى مَنْ لَمْ يَشْهَدِ الجُمُعَةَ غُسْلٌ منَ النِّساءِ وَالصّبْيَانِ وَغَيرِهِم

يشير إلى أن الغُسْل مسنونٌ ليوم الجمعة أو لصلاتها، والمشهور أنه للصلاة‏.‏ ومع ذلك أقول‏:‏ إنه لو اغتسل أحدٌ للصلاة ثم سبقه الحدث فتوضأ، حصل له الثواب وأَحْرَز الأَجْرَ إن شاء الله تعالى‏.‏

894- قوله‏:‏ ‏(‏مَنْ جاءَ مِنْكُم الجُمعةَ فَليغْتَسِل‏)‏ فدَّل الحديث على تفصيل في وجوب الغُسْل يوم الجمعة، وأن الجائي ليس كلاًّ منهم، ولذا قال‏:‏ «من جاء»‏.‏

قلت‏:‏ إذا لم يكن «من» ههنا للتعميم عند المصنف رحمه الله فكيف أفاده في قوله‏:‏ «لا صلاةَ لِمَنْ لم يقرأ بفاتحةِ الكتابِ» فإِن يأخذِ المصنفُ رحمه الله عمومَه في الأحوال كلِّها من الانفرادِ والاقتداء، ساغ لنا أن نأخذَ عمومَه في الأشخاص، أي‏:‏ من كان من المنفرد أو الإمام فلا صلاةَ له إلا بالفاتحة، ولا بِدْع في أن يكون الخطابُ عامًّا والمخاطبُ خاصًّا، فجاز إرادةُ الخصوص مع وُرُود صيغة العموم كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النّسَآء فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ‏}‏ ‏(‏البقرة‏:‏ 232‏)‏، فالخطاب وإن كان عامًّا في الظاهر، لكنه خاصُّ بالأولياء بالنظر إلى أن المخاطبين هؤلاء‏.‏ وكذلك الخطابُ في حديث‏:‏ «ائذنوا للنساءِ إلى المسجد- بالمعنى- عامٌّ‏.‏ والمرادُ منه الأزواج فقط‏.‏ ولعلك عَلِمت أن الخطاب وإن عَمَّ لكن التكليف قد يكون بالخاصِّ‏.‏ وحينئذٍ ساغ لك أن تُريدَ بالموصولِ في الحديثِ هُم الذين جازتْ في حَقِّهم القراءةُ‏.‏

باب‏:‏ الرُّخْصَةِ إِنْ لَمْ يَحْضُرِ الجُمُعَةَ في المَطَر

وهو المسألة عندنا، غيرَ أنك مأمورٌ بالاستفتاءِ عن قلبك‏.‏

باب‏:‏ مِنْ أَينَ تُؤْتَى الجُمُعَةُ، وَعَلَى مَنْ تَجِب

وهذه مسألة أخرى غير مسألة القرية والمِصْر، وهي أن الجمعة إذا وجبت في مصر بشرائطها فعلى مَن يجبُ شهودُها‏؟‏ ومَن كان في حواليها‏؟‏ وفيها عدة أقوال للحنفية بسطها الشُرُنْبلالي في رسالته «تحفة أعيان الغِنى في أحكام الفِنا» منها‏:‏ أنها تَجِب على أهل هذا البلد فقطِ ولا تجب على مَنْ حوله من القرى قريبةً أو بعيدةً‏.‏ والمختار عندي أنها واجبة على مدى صوت الأذان، وهذا في خارج المصر‏.‏ أما في المِصْر فلا يشترط سماع الأذان أصلا‏.‏ وعن أبي يوسف أن الجمعة على مَنْ آواه الليل إلى أهله، وهي المسافة الغدوية‏.‏ قلت‏:‏ وهو أَعْسَرُ في العمل‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏قال عطاء‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ إلخ‏.‏ وقد مَرَّ أن عطاء يقول بعين مذهب الحنفية، والعجب من المصنف رحمه الله أنه حذف تلك القطعة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏سَمِعْت النِّدَاءَ أو لم تَسْمَعْه‏)‏ وهذا لداخلِ البلد‏.‏ وما قلت من وجوب الجمعة على مَنْ سمع النداء فهو للخارج عن البلد، وإليه يشير إلى قوله تعالَى‏:‏ ‏{‏إِذَا نُودِىَ لِلصَّلَوةِ‏}‏ ‏(‏الجمعة‏:‏ 9‏)‏، ثُم قد مَرَّ معنا التنبيهُ على أنَّ عطاء تابعيٌّ، وقد قَيَّدَ القرية بالجامعة‏.‏ فدل على أن اصطلاح الجامعة قد كان ساريًا في زمنهم أيضًا‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وكان أنسُ رضي الله عنه‏)‏ وقد مَرَّ أنه موافق للحنفية وليس تَجْمِيعُه في قَصْرِه‏.‏ قلت‏:‏ وقد أخرج الحافظ عن ابن أبي شيبة أنه كان يشهد الجمعة من الزاوية، وهي على فَرْسَخَيْن من البصرة‏.‏ وهكذا في «مصنف» عبد الرزاق كما أخرجه الحافظ رحمه الله تعالى أيضًا‏.‏

902- قوله‏:‏ ‏(‏كان الناسُ يَنْتَابُونَ‏)‏‏.‏ وقد مرَّ التنبيه على لفظ الانتياب وأنه لا يفيد المجيءَ متواليًا‏.‏ وغَلِط صاحبُ «الصراح» في ترجمته ‏(‏بيابي آمدن‏)‏ فإِنه قَطَع النظر عن الأفعال المتخللة في البين، ووصل الفعل من الفعل، وجعل الكُلَّ في سلسلة واحدة، فترجم بِلَفْظٍ دَلَّ على التوالي‏.‏ ومعناه عند، التحقيق الحضورُ نوبةً بعد نوبة، فإِن شهدوا الجمعة فذاك، وإِلا صَلُّوا في بيوتهم الظهر‏.‏ ولو كانت الجمعةُ عزيمةً على أهل القُرى لشهدوها البتة‏.‏ وقد أقرَّ القرطبي شارح مسلم بكونه حجةً للحنفية‏.‏

باب‏:‏ وَقْتُ الجُمُعَةِ إِذَا زَالَتِ الشَّمْس

ووقتُها عند الجمهور وقتُ الظهر، وعند أحمد رحمه الله تجوز في وقت العيدين أيضًا، لأنها أيضًا من أعياد المسلمين فتصح في الضحوة، ونُسِب إلى ابن الزُّبير رضي الله عنه أيضًا، قال ابن تيمية‏:‏ إنه كان كثيرَ التفردات‏.‏ ونحوه نُسِب إلى ابن مسعود رضي الله عنه‏.‏ قلت‏:‏ وهذه النسبة لا تصح إليهما وقد كشفتُ عنه، ولا تَمَسُّك في لفظ الرواح، لما مَرَّ أن المسائل لا تُبنى على اللغة ما لم يشهد بها العملُ‏.‏

وأما قوله‏:‏ «ونَقِيل بعد الجُمُعَةِ» فلا دليل فيه، والتمسَّكُ به سحابةُ صيفٍ، ومعناه عند الجمهور أنهم بعد أداء الفجر لا يرجعون إلى بيوتهم ويجلسون في انتظار الجُمعة، فإِذا قَضَوها ورجعوا إلى بيوتهم طَعِموا وقالوا، أي القيلولة الفائتة، فهو كقولهم‏:‏ أتزرتُ السَّراويل‏.‏

باب‏:‏ إِذَا اشْتَدَّ الحَرُّ يَوْمَ الجُمُعَة

وفي العيني‏:‏ أنه لا إبراد في الجُمعةِ‏.‏ وفي «البحر»‏:‏ أن فيها ذلك‏.‏ والأرجح عندي ما اختاره العيني رحمه الله‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وإذا اشتَدَّ الحَرُّ أَبْرَدَ بالصلاةِ، يعني الجُمُعَة‏)‏‏.‏ قلت‏:‏ والحديث عندي وَرَدَ في الظهر، وأجراه الراوي في الجُمعة من عند نفسه، لأنه ورد في الجمعة من جهة صاحب الشرع، والله تعالى أَعلم، فهو إذن إلحاقٌ بالقياس‏.‏

باب‏:‏ المَشْيِ إِلَى الجُمُعَة

جزم أنَّ العَدْوَ ليس بواجبٍ فَعَبَّر بالسَّعْي عن المشي وإنْ كان السَّعْيُ في اللغة بمعنى العَدْو، وإذا كانت صلتُهُ «إلى»‏.‏ وإنما عَبَّر عنه بالسَّعْي على معنى عدمِ الاشتغال بأَمْرٍ سواها‏.‏ قلت‏:‏ واختلاف المعاني باختلاف الصِّلات ليس بِمُطَّردٍ عندي، فلا تُبْنى عليها المسائلُ‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وقال ابن عباس رضي الله عنه‏:‏ «ويَحْرُمُ البيعُ حِينَئذٍ‏)‏ وفي «الهداية» في باب الجمعة‏:‏ أن الصناعاتِ كلَّها حرامٌ في هذا الوقت‏.‏ وفي‏:‏ مكروهات البيع‏:‏ أنها مكروهةٌ تحريمًا‏.‏ فلا أدري أهو من اختلاف النظر، أَم نشأ مما نُقِلَ عن محمد رحمه الله أَنَّ كُلَّ مكروهٍ تحريمًا حرامٌ‏؟‏ وقال الشيخ ابن الهُمام رحمه الله‏:‏ إنَّ كلَّ نهي لغيره فهو لكراهةِ التحريم وإن كان قطعيًا‏.‏ قلت‏:‏ وهذا لا يمشي في الخُلْع، أما المصنف رحمة الله فاختار الحرمة‏.‏

907- قوله‏:‏ ‏(‏مَن اغْبَرَّتْ قَدَمَاهُ‏)‏ قد استقرَّ أئمةُ الحديث على أنه متى ورد لفظ «في سبيل الله» فهو في الجهاد‏.‏ ولذا ترجم به الترمذي في الجهاد، وحَمَل الصيامَ في سبيل الله على الجهاد‏.‏ وترجمة البخاري تشيرُ إلى تعميمهِ شيئًا‏.‏ واختُلِف في تفسيره بين الحنفهية، فقيل‏:‏ هو مُنْقَطِع الغزاة‏.‏ وقيل‏:‏ مُنْقَطِع الحاجِّ‏.‏ قلت‏:‏ بل هو أعمُّ منهما نظرًا إلى صَلوح اللغة‏.‏ نعم، كَثُر استعمالُه فيهما، فساغ أن يكون عامًّا في الحديث أيضًا كما أراده المصنف رحمه الله‏.‏ وإِن أخذنا رأي الترمذي وغيرِه، فلعل المصنِّفَ أَلْحَقَ الجمعةَ بالجهاد، فتمسك لها بما ورد في الجهاد‏.‏